بقلم: عبد الله السناوي
لم تكن الحرب الأوكرانية، بآثارها الماثلة وتداعياتها المحتملة، أول إشارة على قرب نهاية النظام الدولي، الذي استهلك زمنه وحقائقه التي تأسست إثر الحرب العالمية الثانية.
على مدى طويل نسبياً طرحت دعوات لإصلاح النظام الدولي، أو إعادة بنائه من جديد، جرى إجهاضها تباعاً، حتى داهمت عالمنا المضطرب أزمتان كاشفتان: «كوفيد 19» و«الحرب الأوكرانية».
في الأزمة الأولى، طرحت الأسئلة الكبرى على خلفية رائحة الموت في الشوارع ومشاهد الجثث التي تنقل في حافلات إلى مقابر جماعية، أو يجري إحراقها خشية انتشار الوباء.
كان أكثر الأسئلة إلحاحاً، لماذا تقاعست الولايات المتحدة عن الوفاء بأية أدوار قيادية، أو تضامنية، في مواجهة تفشي الوباء، لا مدّت يد العون إلى الحليف الأوروبي، ولا حاولت أن تخفف من معاناة الشعوب والدول الأكثر فقراً؟
اهتزت صورة الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة، كما لم يحدث منذ نهاية الحرب الباردة. لم تكن منظومتها الصحية على قدر قوتها الاقتصادية والعسكرية ولا بدا أداؤها السياسي داعياً إلى شيء من الاحترام.
تركت الحلفاء الأوروبيين وحدهم تقريباً في مواجهة الموت، فضلاً عن دول العالم الثالث الأكثر انكشافاً أمام ضربات الجائحة.
كان أداء «دونالد ترامب» مزرياً في إفاداته الصحفية اليومية، صب هجومه على الصين وأطلق على الوباء «الفيروس الصيني» دون أن يبدي اهتماماً يذكر بمقاومته، شكك في منظمة الصحة العالمية ولوّح بالخروج منها ووقف تمويلها في وقت الجائحة.
ساد خطابه شعار «أمريكا أولاً» في توزيع اللقاحات، كأنه تخلٍ معلن عن أية مسؤولية سياسية وأخلاقية.
هكذا طرح السؤال نفسه بين الحلفاء المفترضين: بأية صفة تطلب الولايات المتحدة القيادة المنفردة، أو أن تطلب فتطاع؟!
بالتزامن طرح سؤال آخر تحت ضربات الجائحة: ما جدوى الاتحاد الأوروبي؟!
غاب أي تنسيق، أو شبه تنسيق، في مواجهة الخطر الزاحف، أغلقت الحدود بين دوله، وبدا الفشل ذريعاً، فيما كان بلدان أوروبيان كبيران، إيطاليا وإسبانيا، مروّعان تماماً تحت وطأة معدلات الموت العالية في المستشفيات العامة، التي ضاقت بالمرضى وسبل النجاة، والترويع نفسه يضرب القارة الأوروبية كلها بدرجات أخرى.
فيما اختفت أية درجة تضامن، تقدمت الإمارات والصين وروسيا ومصر وكوبا المحاصرة لمدّ يد العون بمعدات طبية ضرورية لدول أوروبية متضررة، كإيطاليا، تخلت عنهم الدولة التي يفترض أنها في موقع القيادة والمسؤولية.
كان ذلك لافتاً في وقته وحينه أن هناك شيئاً جوهرياً يتفاعل في بنية النظام الدولي.
حاولت إدارة «جو بايدن» دون جدوى ترميم صورة الولايات المتحدة كقوة عظمى غير أن مشاهد الانسحاب العشوائي من أفغانستان نالت منها بقسوة.
حاول الأوروبيون بدورهم ترميم صورة الاتحاد في عيون شعوبهم، غير أن الشروخ بقيت حاضرة بالذاكرة العامة.
وفي الأزمة الثانية، تبدت وسط نيران الحرب الأوكرانية أزمة النظام الدولي المتهالك وضرورات تغييره.
لم تكن أوكرانيا موضوع الصراع العسكري والسياسي بقدر ما كانت ميداناً لصراع الإرادات بين قوة متنفذة على رأس النظام الدولي وقوة مرشحة بالتحالف مع الصين الصاعدة أن تمثل مركزاً آخر.
بصورة أو أخرى فإن هناك دافعين للهيستيريا الغربية، التي أخذت مداها في عقوبات غير مسبوقة، أولهما، أمني مباشر، أن تكون روسيا في وضع انكشاف استراتيجي بتمدد حلف «الناتو» إلى حدودها المباشرة، والآخر، استراتيجي كامن تتحدد بمقتضى مواجهاته الأوزان والأحجام في نظام دولي جديد يوشك أن يولد.
جرى تحرش هيستيري بروسيا لجرّها إلى حرب تتأكد فيها وحدة المعسكر الغربي وهيبة منظومته العسكرية (حلف الناتو) وقدرته على إيقاع الألم بعدوّه التاريخي ومنع أية أدوار مستقبلية قد يضطلع بها.
المشكلة –هنا- أن ما هو قديم ومتمركز في النظام الدولي الحالي يدافع عن مصالحه ونفوذه من دون أن يتسع أفقه على فكرة التعددية، وأن ما هو جديد وصاعد يفتقر إلى إلهام النموذج السياسي.
الأدوار الكبرى لا تصنعها العضلات العسكرية وحدها، ولا هستيريا العقوبات تؤسس لهيبة القوى العظمى. التغيير حتمي في بنية النظام الدولي. العالم الآن في أحوال اضطراب. لا الجديد استبانت ملامحه ولا القديم مستعد أن يخلي مواقعه.
لم يكن جديداً الكلام المتواتر عن قرب نشوء نظام دولي جديد. اجتهدت مراكز التفكير والأبحاث الدولية في استشراف مستقبل النظام الدولي وضرورات تجديده.
تقدم الأمين العام للأمم المتحدة الراحل الدكتور بطرس غالي، بمشروع لتجديده ضمنه أفكار وتصورات لم يتسنّ لها أن توضع في التنفيذ. الحديث يتجدد الآن في أحوال اضطراب غير مسبوقة. النظم الدولية لا تعلن عن نفسها في يوم وليلة. الحقائق تأخذ وقتها قبل أن تعلن عن نفسها.
لم يعلن النظام الدولي عن نفسه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة. استغرق أحد عشر عاماً حتى تكشفت حقائقه الكاملة وموازين القوة فيه.
كانت حرب السويس عام (1956) هي اللحظة التي تأكد فيها نهاية الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية وانفراد الولايات المتحدة بقيادة التحالف الغربي في مواجهة تحالف آخر يقوده الاتحاد السوفييتي.
تحفظت الولايات المتحدة على العمل العسكري تخطيطاً وتنفيذاً من خلفها، دون اعتبار أنها قد آلت إليها قيادة العالم الغربي بعد الحرب العالمية الثانية. وكان الموقف السوفييتي حاسماً إلى درجة التلويح بقصف لندن وباريس إذا لم يتوقف العدوان على مصر.
بأثر النتائج السياسية لحرب السويس أعلن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية نظامه الدولي الجديد في معسكرين متناقضين سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وأيديولوجياً، فيما الدول المستقلة حديثاً تحاول أن تخط طريقاً مستقلاً تحت اسم «حركة عدم الانحياز».
في زمن مختلف وأجواء مغايرة فإننا الآن بالقرب من نظام دولي جديد دون أن نستبين حقائقه الأخيرة.